جدة التاريخية (جدة البلد): جوهرة التراث العريق

في قلب مدينة جدة، حيث تلتقي أمواج البحر الأحمر بأصداء التاريخ العريق، تقع “جدة البلد”، أحد أقدم الأحياء التراثية في المملكة العربية السعودية. بين أزقتها الضيقة وأسواقها النابضة بالحياة، تختبئ حكايات قرون من التجارة والثقافة والتقاليد التي لا تزال شاهدة على مجد الماضي. هذه المنطقة ليست مجرد موقع أثري، بل هي نبض حيّ يروي قصة جدة منذ أن كانت بوابة للحجاج والتجار القادمين من أنحاء العالم الإسلامي.

تاريخ جدة البلد: من مرفأ صغير إلى تراث عالمي

يعود تاريخ جدة البلد إلى ما قبل الإسلام، لكنها شهدت تحولًا كبيرًا عام 647م عندما اختارها الخليفة عثمان بن عفان ميناءً رئيسيًا لمكة المكرمة. ومنذ ذلك الحين، أصبحت جدة مركزًا تجاريًا استقطب السفن القادمة من الهند، واليمن، وشرق إفريقيا، مما منحها طابعًا عالميًا ظل متأصلًا في ثقافتها حتى اليوم.

ومع ازدهارها كمركز للحجاج والتجار، بُني حولها سور لحمايتها من الغزوات، وكان يضم عدة بوابات رئيسية مثل باب مكة وباب المدينة وباب شريف. وفي عام 2014، أدرجت جدة التاريخية ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي، تقديرًا لما تزخر به من مبانٍ قديمة، وأسواق تقليدية، ومساجد تاريخية تعكس تطور المدينة عبر العصور.

سور جدة وبواباتها التاريخية

لعب سور جدة دورًا هامًا في الدفاع عن المدينة، وقد بناه الأمير المملوكي حسين الكردي لحمايتها من الغزو البرتغالي. كان السور يضم عدة بوابات رئيسية، منها باب مكة، باب المدينة، باب شريف، باب جديد، باب البنط، باب المغاربة، وباب النافعة. ومع توسع المدينة، أُزيل السور عام 1947م، لكن لا تزال بعض بواباته قائمة كشواهد على حقبة من الصراعات والتجارة المزدهرة.

حارات جدة التاريخية : روح المدينة التراثية

تتألف جدة البلد من عدة أحياء قديمة تُعرف باسم “الحارات”، ولكل منها طابعها الفريد:

  • حارة المظلوم: تنسب إلى السيد عبد الكريم البرزنجي الذي أعدم في العهد العثماني، وتضم مسجد الشافعي وسوق الجامع.
  • حارة الشام: تقع شمال السور، وكانت موطنًا للتجار الذين تعاملوا مع بلاد الشام.
  • حارة اليمن: تمتد جنوبًا، وتتميز بروحها الشعبية ومبانيها التراثية.
  • حارة البحر: كانت تطل مباشرة على البحر الأحمر، وكانت مركزًا للنشاط البحري.
  • حارة الكرنتينا: كانت مخصصة سابقًا لعزل الحجاج القادمين بحرًا للتأكد من سلامتهم الصحية قبل دخولهم إلى المدينة.

أهم معالم جدة التاريخية

1. بيت نصيف : تحفة معمارية تعود إلى القرن الـ19، ويعد نموذجًا رائعًا للهندسة التقليدية في جدة. كان مقرًا لإقامة الملك عبد العزيز آل سعود أثناء زيارته الأولى لجدة، و يُستخدم في الوقت الحالي كمتحف يعرض تاريخ المدينة.

2. سوق العلوي: من أقدم الأسواق في جدة، ولا يزال يحتفظ بجاذبيته القديمة. حيث تصطف الأكشاك والمحلات التي تبيع التوابل، والعطور، والحرف اليدوية، والمجوهرات الفضية. يقع في الوسط بين شارع قابل وشارع سوق البدو.

3. مسجد الشافعي: يعتبر من أقدم المساجد في جدة التاريخية. ويعود تاريخ بنائه إلى الصدر الأول من الإسلام، حيث بُني في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. يتميز بمئذنته الخشبية التي تعكس جمال العمارة الإسلامية التقليدية.

4. بيت الشربتلي: يجسد روعة البيوت الحجازية التقليدية، ويتميز بنوافذه المزخرفة (الرواشين) التي توفر التهوية الطبيعية للمنزل.

5. باب مكة: أحد البوابات الرئيسية لجدة القديمة، ويعد نقطة انطلاق مثالية لاستكشاف أسواق وأحياء جدة التاريخية.

الأنشطة التي يمكن ممارستها في جدة التاريخية

1. جولة في الأزقة التراثية: يُعد التجول سيرًا على الأقدام بين شوارع جدة القديمة تجربة ساحرة، حيث يمكن استكشاف المباني الحجرية التقليدية والنوافذ الخشبية المزخرفة والتفاصيل المعمارية الفريدة.

2. التسوق في الأسواق الشعبية: تقدم الأسواق القديمة مثل سوق العلوي وسوق البدو فرصة رائعة لاقتناء الهدايا التذكارية، من السجاد اليدوي إلى المجوهرات التقليدية والعطور الشرقية.

3. زيارة المتاحف والمعارض الفنية: بالإضافة إلى بيت نصيف، يمكن للزوار استكشاف متحف جدة التاريخي، الذي يعرض قطعًا أثرية نادرة ووثائق تاريخية تروي قصة المدينة.

4. تذوق المأكولات الحجازية: توفر جدة البلد تجربة طعام أصيلة، حيث يمكن تذوق أطباق مثل المطبق، والسليق الحجازي، والتميس والفول في مطاعمها التراثية المنتشرة في الأزقة القديمة.

5. استكشاف المباني الأثرية: يستمتع الزوار بمشاهدة البيوت التراثية مثل دار آل جمجوم، ودار آل باعشن، ودار آل باناجة، التي تعكس فن العمارة الحجازية القديمة.

أفضل وقت لزيارة جدة التاريخية

الشتاء (من نوفمبر إلى فبراير) هو الوقت الأمثل للاستمتاع بجدة البلد، حيث تكون الأجواء معتدلة، مما يجعل التجول في أزقتها أكثر راحة.

كيفية الوصول إلى جدة التاريخية

تقع جدة البلد في وسط المدينة، ويمكن الوصول إليها بسهولة عبر التاكسي أو الحافلات العامة. كما أنها قريبة من كورنيش جدة، مما يجعل زيارتها تجربة متكاملة تجمع بين التراث والحداثة.

نصائح للزوار

  • ارتدِ ملابس مريحة وأحذية مناسبة للمشي، خاصة أن شوارع جدة البلد مرصوفة بالحجارة.
  • احرص على زيارة المعالم الرئيسية في الصباح الباكر أو بعد العصر لتجنب حرارة الشمس.
  • استكشف المنطقة برفقة دليل سياحي للاستفادة القصوى من المعلومات التاريخية والثقافية.

جدة البلد، حيث يعيش التاريخ

جدة التاريخية ليست مجرد معلم سياحي، بل هي قلب نابض بالتاريخ والتقاليد، حيث يمتزج الماضي بالحاضر في مشهد فريد يأسر القلوب. من أسواقها القديمة إلى مبانيها التراثية، و من شوارعها الضيقة إلى رائحة البهارات العابقة في أجوائها، تقدم جدة البلد تجربة استثنائية تأخذ الزوار في رحلة عبر الزمن. سواء كنت مهتمًا بالتاريخ، أو الثقافة، أو الطهي التقليدي، فإن جدة البلد تعد وجهة تستحق الزيارة لعشاق التراث والجمال.

اذا اعجبك هذا المقال ، لا تتردد في مشاركته مع اصدقائك!