في قلب الأشرفية، وعلى هضبة تطل على بيروت، يقف قصر نيكولا سرسق شامخًا. كان هذا القصر شاهدًا على حقبة من الفخامة البيروتية وشغفٍ لا ينضب بالفنون. بني متحف سرسق في بيروت عام 1910 على يد نقولا سرسق، أحد أبرز وجوه المجتمع البيروتي آنذاك، ليكون دارًا تحاكي روائع العمارة الإيطالية واللبنانية، قبل أن يتحول بوصية صاحبه إلى صرح ثقافي خالد يحمل اسم متحف نيكولا سرسق للفن الحديث والمعاصر.
جدول المحتويات
من قصر للضيافة إلى منبر للفنون
وهب نقولا سرسق قصره لمدينة بيروت عام 1952 واشترط أن يتحول بعد وفاته إلى متحف يحتضن الفنون ويدعم الفنانين اللبنانيين. وعلى الرغم من أن تنفيذ الوصية تأخر تسع سنوات، شهد القصر خلال تلك الفترة محطات استثنائية. إذ أصدر الرئيس اللبناني كميل شمعون مذكرة مؤقتة بتحويله إلى قصر للضيافة استُقبل فيه ملوك ورؤساء من مختلف دول العالم.
وفي عام 1957، احتضن القصر أولى فعالياته الفنية تحت عنوان “أول متحف متخيّل في العالم”. حيث قُدمت 664 لوحة ملونة لأعمال فنية من آسيا وأوروبا وأميركا. ثم افتتح رسميًا كمتحف عام 1961 مع انطلاق “معرض الخريف”، وهو تقليد سنوي استلهم فكرته من نموذج فرنسي يعود للقرن التاسع عشر، ويعدّ منصة لاكتشاف المواهب الفنية وتكريم الإبداع اللبناني.

مجموعات المتحف وكنوزه الفنية
يضم المتحف أكثر من 1500 قطعة فنية متنوعة بين لوحات ومنحوتات وتماثيل وأيقونات تعود إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إضافة إلى مجموعة نيكولا سرسق الشخصية، وأكثر من 30 ألف صورة وبطاقة بريدية ومخطوطة قيّمة من مجموعة فؤاد دباس الفوتوغرافية التي توثق آلاف الصور النادرة لمنطقة الشرق الأوسط. كما يحتضن المتحف قطعًا من الأعمال الفنية الإسلامية، ومجموعة من المقتنيات الأثرية الثمينة التي اكتُشفت في قبو القصر.
امتد تأثير المتحف إلى ما وراء حدود لبنان. فاحتضن معارض عالمية متنوعة، شملت السجاد الشرقي، والفن السوري المعاصر، والفن البلجيكي. إضافة إلى المائيّات والرسوم البريطانية في القرن العشرين، ليصبح منصة للفنون من مختلف أصقاع الأرض.

الصمود في وجه الأزمات وإعادة النهوض
رغم الحرب الأهلية اللبنانية بين 1975 و1990، ظل المتحف حريصًا على فتح أبوابه كلما سمحت الظروف، مؤكدًا مكانته كمنارة ثقافية لا تنطفئ. وفي عام 2008، خضع القصر لعملية ترميم وتوسعة جذرية بمبادرة من الصحافي والديبلوماسي الراحل غسان تويني، حيث تم توسيع مساحته من 1500 إلى 8500 متر مربع، بإشراف المهندسين جان ميشال ڨلموت وجاك أبو خالد.
انتهت أعمال الترميم عام 2015، لتضيف للمتحف أجنحة حديثة تشمل صالات للمعارض المؤقتة، أوديتوريوم يتسع لـ168 شخصًا، مكتبة بحثية متخصصة بالفنون، محترفًا للترميم. إضافة إلى متجر ومطعم، لتتكامل جميع هذه المرافق في صنع تجربة فنية متكاملة.

جراح الانفجار وإرادة الحياة
لم يسلم المتحف من فاجعة انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020. تعرض حينها المتحف لأضرار جسيمة طالت نوافذه وألواحه الزجاجية وجدرانه، وألحقت أضرارًا بنحو 25 عملًا فنيًا. ومع ذلك، بقي المتحف واقفًا، يرمم جراحه ويواصل رسالته في احتضان الفنون ورفد المشهد الثقافي اللبناني بورش العمل والمعارض الدورية.
أتمّت اليونسكو إعادة تأهيل متحف سرسق الأيقوني، ومن المقرر إعادة فتح أبوابه في 26 أيار/مايو 2023.

مواعيد الزيارة
يفتح المتحف أبوابه للزوار من الاثنين إلى السبت، خلال المعارض، في الأوقات التالية:
10:00 صباحًا – 1:00 ظهرًا
4:00 عصرًا – 7:00 مساءً
ويغلق أبوابه أيام الأحد.

تحفة بيروتية وذاكرة مدينة
متحف نيكولا سرسق ليس مجرد مبنى أثري أو صرح ثقافي، بل هو حكاية بيروتية نابضة، تجسّد شغف جيل بالفن والجمال، وتؤرخ لذاكرة مدينة لا تنكسر، مهما اشتدت الأزمات. هنا، حيث يعانق الفن التاريخ، تتجدد الحياة مع كل لوحة وكل منحوتة، في انتظار من يتأملها ويقرأ بين تفاصيلها فصولًا من عشق بيروت للفن.
