على مقربة من قلب العاصمة اللبنانية بيروت، يقف حي الجميزة شامخًا كشاهد حي على تحولات المدينة وتاريخها العريق. هذا الحي الذي يُعد من أوائل الضواحي التي تشكّلت خارج أسوار بيروت القديمة، ظل عبر القرون نقطة وصل بين الساحل الشامي ومدن الداخل السوري، من طرابلس وصيدا حتى دمشق، فاحتضن بين أزقته الضيقة وجدرانه الصامدة حكايات لا تنتهي عن المدينة وأهلها.
يتوسط الجميزة أربع مناطق رئيسية: المرفأ والصيفي والرميل والمدور، ويشقّه شارع الجميزة، أحد أقدم وأطول شوارع لبنان تاريخيًا. يمتد هذا الشارع كنبضٍ للحياة البيروتية، تختزن جدرانه بقايا العصور العثمانية والمملوكية والصليبية، شاهدة على الحقب التي مرّت بها البلاد، من ازدهار الحرف والتجارة وصولًا إلى محطات الحرب والألم.

جدول المحتويات
التسمية .. بين ظلال الجميز وذاكرة البيّارة
سمّي الحي “الجميزة” تيمنًا بأشجار الجميز التي كانت تظلل طرقاته، وتمنح المكان روحًا من السكينة والوقار. وتتناقل الروايات قصتين عن أصل التسمية؛ إحداهما تقول إن شجرة جميز ضخمة كانت مقصدًا للرجال يتفيؤون تحتها ويتسامرون، قبل أن تُقطع لبناء مقهى حمل لاحقًا اسم “مقهى الجميزة”. أما الرواية الأخرى فتذكر أن أحد الحكّام قطع شجرة جميز كبيرة كانت تتوسط المكان لاستخدام حطبها.
ويقال إن الاسم القديم للمنطقة كان “البيّارة”. وهي كلمة لبنانية عامية تعني مجموعة من الآبار المائية، وذلك لكثرة الآبار التي كانت تنتشر في تلك البقعة يومًا ما.

تاريخ عريق .. ومعالم لا تنسى
لملم تكن الجميزة يومًا مجرد حي سكني، بل كانت وما زالت مركزًا نابضًا للحرف والصناعات التقليدية. ازدهرت فيها صناعة أجران الكبة، ومشروب العرق، والصابون البلدي. شُيّد فيها أول مسرح عربي، مسرح مارون النقاش، الذي شكّل انطلاقة فارقة في تاريخ الفنون والمسرح في المنطقة. لا تزال بصماته شاهدة على عبق الماضي الثقافي.
ويحتضن الحي معالم أثرية عديدة، أبرزها الدرج الأثري القديم، الذي لا يزال حتى اليوم محجًا للزوار وعشاق التصوير، وملاذًا لكل من يرغب في استنشاق عبق بيروت الأصيلة من علٍ. كما تنتشر في أرجائه الكنائس العريقة مثل كنيسة مار نقولا، شاهدة على التنوع الديني والروحي الذي ميّز بيروت عبر العصور.

عمارة فرنسية وهوية بيروتية
تتزيّن مباني الجميزة بطابعها التراثي الذي تأثر بالعمارة الفرنسية، خاصة خلال فترة الانتداب، حيث الشرفات المزخرفة بالحديد المطاوع والنوافذ الواسعة التي تحكي قصص سكان مرّوا من هنا وتركوا بصمتهم في زوايا الحي. وتجاور هذه الأبنية اليوم مقاهٍ عصرية ومتاجر حديثة، ما يخلق مزيجًا فريدًا بين الماضي والحاضر.

الحياة في الجميزة .. بين ضوء النهار وصخب الليل
في النهار، تأخذك الجميزة في جولة بين شوارعها الضيقة المرصوفة بالحجارة، حيث تتناثر المتاجر الصغيرة التي تعرض الحرف اليدوية والهدايا التذكارية، بينما تنبعث من المقاهي رائحة القهوة اللبنانية التي تعبق المكان بدفء الذكريات. أما في المساء، فتنقلب الصورة، إذ تشتهر الجميزة بكونها واحدة من أهم وجهات الحياة الليلية في بيروت، حيث تصطف الحانات والمطاعم والنوادي الليلية على جانبي شارع غورو، الشارع الرئيسي للحي، لتنبض بالحياة حتى ساعات الفجر الأولى.

معلومات تهم السائح
الموقع: يقع حي الجميزة في قلب بيروت، على مقربة من مرفأ المدينة.
الخدمات: يضم الحي مجموعة واسعة من المطاعم والمقاهي والمتاجر، إلى جانب الفنادق التي تستقبل الزوار من مختلف أنحاء العالم.
ساعات العمل: تفتح معظم المرافق أبوابها من الصباح الباكر وحتى وقت متأخر من الليل.
الدخول: يمكن زيارة الحي والتجول بين معالمه مجانًا.

الجميزة .. حيث تنبض بيروت القديمة بالحياة
اليوم، تمثل الجميزة لوحة بيروتية متكاملة تجمع بين التاريخ العريق والحياة العصرية، بين الذاكرة والواقع. هي المكان الذي يجد فيه السائح كل ما يبحث عنه من سحر الماضي ووهج الحاضر، ليبقى هذا الحي وجهة مثالية لكل من ينشد اكتشاف بيروت الحقيقية، بعيدًا عن زيف الحداثة، وفي قلب مدينة تحفظ ذاكرتها بين حجارة شوارعها ونبض أبنيتها العتيقة.
